تحتضنه الحسيمة منذ قرون: الحج في نسخته الامازيغية


تحتضنه الحسيمة منذ قرون: الحج في نسخته الامازيغية
ضريح يتحول يوم الوقوف بعرفة إلى قبلة لمريدين يمارسون طقوسا تشبه شعائر الحج إلى بيت الله الحرام حيث يردد « الحجاج » الأذكار والأوراد في مسيرة عظيمة وخاشعة تتغي مناجاة الله ومدح الرسول خير البرية…بعدها يرجمون ويسعون سعيهم الخاص، ويصعدون من سيدي بوخيار إلى مزار « للا منانة » المتواجد بأعلى القمة بجبل شقران، ثم ينحرون الهدي…ليعودوا يوم عيد الأضحى ويجتمعون للغذاء الجماعي بعد صلاة الظهر بزاوية سيدي عبد القادر.

بعد صلاة الفجر مباشرة ينتظر « الحجاج » شروق الشمس ليسلكوا طريقهم إلى « عرفة » ويقضون فيها النهار كاملا إلى حين غروب الشمس، بعد أن يكون قد قاموا بالعديد من الشعائر طيلة اليوم، أو على الأقل إلى حين صلاة الظهر، وهم يدعون الله ويذكرونه ويبتهلون إليه سبحانه وتعالى كثيرا، يأتون من كل فج عميق وهم »شعثا غبراً » همهم الوحيد هو التقرب إلى الله وصلة الرحم مع إخوان لهم…الحاج هنا يجب أن يكون حاضر القلب وفارغًا من الأمور الشاغلة عن الدعاء، وبعد الزوال يقدم على قضاء أشغاله ويتفرغ بظاهره وباطنه لجميع العلائق الإنسانية وهو يستعد ليوم النحر.

لسنا هنا بموقع « عرفة » الذي يبعد عن مكة المكرمة ب 22 كلم، بل نحن بتراب الجماعة القروية لشقران التي تقع في عمق سلسلة جبال الريف جنوب مدينة الحسيمة بحوالي 80 كلم، وضمن الحدود الجغرافية لقبيلة أيث ورياغر، وبالضبط « ضيوفا » على الوالي الصالح سيدي بوخيار، حيث يقام موسم سنوي يوما قبل عيد الأضحي، وقبل ذلك كان يقام خلال الأيام الثلاثة التي تسبق العيد، ولعل أول ما يستوقف الزائر إلى هذا الموسم هي الطقوس التي تشبه إلى حد كبير طقوس الحج إلى بيت الله الحرام، حيث يردد « الحجاج » الأذكار والأوراد في مسيرة عظيمة وخاشعة تتغي مناجة الله ومدح الرسول خير البرية.

« حجاج » ضريح سيدي بوخيار يمارسون جل الشعائر التي تمارس من قبل حجاج بيت الله الحرام بمكة، حيث كانوا يطوفون حول مكان محدد، ثم فيما بعد حول الضريح، يتحركون في مسيرة نحوى إحدى الجداول القريبة من الضريح حيث يتوقفون لمدة قصيرة ثم يستمرون في مسيرتهم صوب مكان حيث يتجمعون على شكل حلقة يتوسطها مقدم المعتمرين ويرددون بعض الأمداح الدينية ويكبرون الله ويصلون على النبي، بعدها يرجمون ويسعون سعيهم الخاص

ويصعدون من ضريح سيدي بوخيار إلى مزار « للا منانة » المتواجد بأعلى قمة جبلية بشقران، ثم ينحرون الهدي…

موسم سيدي بوخيار: تاريخ النشأة والتأسيس

سيدي بوخيار حسب رويات المهتمين دائما بتاريخ المنطقة قد يكون قدم من الجزائر الشقيقة واستقر بجبال شقران ليؤسس هناك إحدى أهم الرباطات الدينية بالريف، ولعب دورا بارزا في حل المشاكل الاجتماعية للسكان وتعليمهم شعائر الدين الإسلامي…كما يعتبره بعض الدارسين الجد الأكبر للورياغليين (أحد أكبر قبائل الريف)، وعمل على ترسيخ هذا السلوك- أي « العمارة » التي كانت تقام بهذا الموقع ربما قبل أن يستقر بها- وتنظيمه بكيفية أفضل، وهي الطقوس التي ما زالت تمارس حدود اليوم وإن كان بشكل وطريقة « مختصرة » في المكان المحدد بحوالي 75 مترا عن الضريح.

وحسب ما يرى هؤلاء المهتمين قد يكون سيدي بوخيار من أولياء الله الصالحين الذين تواجدوا بالريف خلال القرن الخامس عشر ميلادي، وحسب علمهم دائما لم يكن منتسبا لإحدى الطرق والزوايا المعروفة في تاريخ التصوف المغربي، لكن « العمارة » التي تقام اليوم أثناء الموسم يشرف عليها « مقدمين » منتسبون إلى الزاوية العلوية، ويقال أنه في السابق كانت مدة هذه « العمارة » و »الحج » هي 4 أيام، ثلاثة أيام قبل العيد ويوم عيد النحر، وكانت تمارس خلالها كل الشعائر التي تؤدى في الحج ببيت الله الحرام، ثم تقلصت إلى يومين، لتصبح اليوم يوما واحدا فقط.

اليوم وبعد عقود من الزمن ما زال المئات من سكان إقليم الحسيمة وغيره من الأقاليم والمدن المجاورة يزورون هذا المكان ويقومون بتنظيم الموسم يوما قبل عيد النحر، وإن كان الكثير منهم لا يمارس طقوس « العمارة » بل يكتفي فقط بمتابعة ما يجري والاستمتاع بجمالية المكان ومناظره الطبيعية الخلابة وبعض مآثره، كما أنه هناك فئة خاصة من الزوار و »مريدي » سيدي بوخيار، إنهم الباحثين والمهتمين والإعلاميين وكذلك مجموعات من السياح الأجانب، أما الممارسون لطقوس الحج و »العمارة » فعددهم بدأ في التناقص تدريجيا سنة بعد أخرى وأغلبهم من الشيوخ والكهول…

الحج إلى سيدي بوخيار: تدبير حكيم حاول تحقيق رغبات الناس الروحية

وفي محاولة لاستجلاء جانب من تاريخ وكنه هذه النسخة المغربية من « الحج » التقينا الأستاذ عمر لمعلم-واحد من المهتمين بذاكرة الريف- الذي أشار إلى « أن الطقوس التي تمارس خلال « العمارة » موغلة في القدم، وتكون قد سبقت ربما إقامة الولي الصالح سيدي بوخيار بالمنطقة، فحسب الروايات الشفوية-يقول- هناك من يعتبر أن بعد مكة عن المنطقة وهلاك عدد كبير من الأشخاص الذي ينوون الحج خلال ذهابهم أو عودتهم من مكة، دفع ببعض الفقهاء إلى إيجاد هاته الصيغة، حيث عمدوا إلى إحضار حفنة من التراب من الكعبة، ووضعوها في مكان عملوا على الطواف حوله »

وأضاف الأستاذ عمر لمعلم رئيس جمعية ذاكرة الريف في توضيح هذا الجانب قائلا: « هناك من يقول أن السبب في إقامة هذا الموسم بمثل هذه الطقوس هو عملية النهب والسرقة والاحتيال التي يتعرض لها قاصدي مكة المكرمة أثناء سفرهم للحج…وهناك من يعتبره اجتهادا محليا حاول من خلاله واضعوه من « رجال الدين » إلى إقناع الناس بأن الحج إلى ضريح سيدي بوخيار ثلاث مرات متتالية هو بمثابة الحج إلى مكة المكرمة… ومهما يكن من أمر أصل هذا التقليد وهذه الطقوس، فإن المؤكد هو أن وراءها تدبير حكيم حاول تحقيق رغبات الناس الروحية »

يقول عمر لمعلم أن الحجاج يبدؤون في ترديد الأمداح الدينية ثم يقومون بتحريك رؤوسهم وأرجلهم مرددين « الله الله الله »…ثم « الله حي » « الله حي »…ويستمر هذا الطقس « الحضرة » وبخشوع منقطع النظير حتى يبدأ بعض المشاركين في فقدان الوعي…بعد ذلك يقوم « المقدم » بالدعاء إلى الله والجميع يردد آمين…ليلتحقوا بالمسجد لأداء صلاة الظهر…بعدها يتفرقون ويتجولون في السوق الذي يقام بالقرب من الضريح لشراء مستلزمات العيد…ليجتمعوا من جديد يوم عيد الضحى وبعد صلاة الظهر عند زاوية سيدي عبد القادر حيث يتناولون وجبة الغذاء بشكل جماعي…

الموسم يعيش انحصارا بعد الهجرة وطول إهمال

اليوم يبدي سكان المنطقة أسفهم الشديد على واقع هذا الموسم، الذي بدا يعرف من الانحصار في السنوات الأخيرة بسبب عدم اهتمام المنتخبون والجهات الوصية وكذلك فعاليات المجتمع المدني بمثل هذه الفضاءات التي يمكن أن تشكل قاعدة أساسية ومهمة لسياحة متنوعة تمتزج فيها عناصر السياحة القروية البيئية الثقافية الدينية…خاصة أن تم ادراجها ضمن كتيبات الاشهار والدلائل والخرائط للتعريف بها وتسويقها كمنتوج سياحي إلى جانب مجموعة من المظاهر الاحتفالية الأخرى التي تزخر بها منطقة الريف والمستمدة من الموروث الشعبي للساكنة.

عبد الرزاق موحند الإدريسي من دوار « تيمكلوين » التابع لنفس الجماعة القروية واحد من الرعيل الأول الذي كان يقبل على الحضور إلى الموسم مع عائلته منذ أن كان طفلا صغيرا، يروي بحسرة شديدة كيف كان موسم سيدي بوخيار في الماضي وكيف أصبح اليوم بعد طول إهمال من طرف المسؤولين وهجرة أغلب ساكنة المناطق المجاورة إلى الخارج والمدن كطنجة، تطوان، الفنيدق، المضيق، وجدة والحسيمة، يقول أن الموسم كان يستقبل الآلاف من « الحجاج » كما كانت تقبل على السوق المجاور له العشرات من « قوافل » التجار من مختلف أنحاء المغرب وبالخصوص من فاس وإقليم الحسيمة نفسه.

عمر المعلم كمهتم بذاكرة الريف يقول أن المطلوب هو إصلاح الطرق المؤدية للمكان وإصلاح الضريح وترميم مزار « لالة منانة » المنهار والمهدد بالاندثار، وكذلك إصلاح السوق المقام هناك وتوفير مختلف بنيات الاستقبال وموقف للسيارات يتسع للعدد الكبير من السيارات التي يتوافد أصحابها على المكان خلال هاته المناسبة…فيمكن بتوفير هاته الشروط وغيرها من أساسيات الاستقبال أن تجعل من جديد سيدي بوخيار محجا ل « المعتمرين » والسياح الراغبين في متابعة هذه « الشعائر » والترويح عن النفس والوقوف على مميزات « العمارة » الصوفية، طبعا إضافة إلى ما سيشكله هذا من مداخل وموارد مالية إضافية لميزانية الجماعة.

مهتمون بالسياحة يدعون إلى استثمار الموسم في الترويج السياحي

مهتمون بالجانب السياحي يرون أن استقطاب الموسم كل سنة لعدد كبير من الزوار والمريدين، والسياح الأجانب والتجار من مختلف المناطق المجاورة للإقليم…يجب أن يكون مدعاة للاهتمام بمثل هذه العناصر الحضارية، والبحث عن كيفية استغلالها في جلب السياح، حيث يطالب هؤلاء المهتمون بضرورة انتباه الجهات الوصية على القطاع والمجالس المنتخبة إلى هذا الموروث خاصة وأن الإقليم كان يعرف قديما وعلى مدار السنة تنظيم العديد من المواسم الدينية التي كانت تشكل حركة اقتصادية تعود بالنفع العميم على تلك المناطق التي تكون في غالبها جبلية وتفتقر إلى موارد دائمة.

وحسب هؤلاء المهتمون والخبراء في القطاع السياحي أصبحت الأبعاد الثقافية والدينية تتنامى باستمرار في حركة السياحة الدولية وأصبحت الزوايا والأضرحة ومراقد الأنبياء والصالحين من مختلف الديانات مواقع يعول عليها في استقطاب السياح بنسب مهمة…وهذا ما بدأت تعكسه العديد من المؤتمرات الدولية التي تحاول النظر في علاقة السياحة بالثقافة أو الدين وتبحث عن سبيل تطوير هذا النوع من السياحة عبر استغلال المعطيات الثقافية والحضارية وحتى الدينية في سياحة تحترم المجتمعات المحلية، وتعتمد أسلوب التضامن الإنساني وتحافظ على البيئة.



وعن مدى تواجد هذه العناصر الحضارية وإمكانية استثمارها تشير رئيسة جمعية شباب الألفية للسياحة والتنمية بأن جوهرة البحر الأبيض المتوسط، الحسيمة، تتوفر على عناصر ثقافية وحضارية غارقة في قدم التاريخ يمكن أن تتحول اليوم إلى مركز جذب سياحي مهم على المستوى الوطني والدولي، وذلك عن طريق رسم استراتيجية تستطيع أن تقدم الإقليم كوجهة سياحية تتعدد بها مؤهلات الاستقطاب السياحي، وعناصر غير متنافس عليها، وفي انسجام كبير تقدم منتوجا سياحيا يرتكز على الأبعاد الثقافية والحضارية إلى جانب جملة من المقومات الطبيعية والبيئية.

اصوات الشمال

تحتضنه الحسيمة منذ قرون: الحج في نسخته الامازيغية