
ميمـون حــــــــرش
Hirchem1@hotmail.fr
تكفي زيارة خاطفة لميناء بني أنصار لنقف على طوابير من سيارات محملة يقودها إخواننا المهاجرون العائدون من ديار الغربة ، بينهم نساء قليلات وراء المقود، وكل سيارة تتبدى من الخارج كما لو فرت من مصير مجهول إلى مصير آمن، لذلك، فضلا عن بني آدم،هناك أحمال كثيرة داخل ، وخارج السيارة، بل وهناك سيارات لا تكتفي بمن يقودها، بل تجروراءها ربيبا وقد تكتفي بحمله فوق سطحها، حابل هو بما لذ وطاب ربما، وبما تعافه النفس ربما ثانية، وفي جميع الأحوال هم عائدون غانمين، لذلك لا حرج من أن يتجشموا تعب قطع المسافات الطويلة محملين بأثقالهم، هو شعار العودة غالبا.
بعض العائدين يدلقون رؤوسهم من سياراتهم، وقد ارتسمت على محياهم ابتسامة بريئة، ليجيبوا عن أسئلة بعض المستقبلين في المطار، وحين نشاهدهم في تلفزتنا( عفوا تلفزتهم) يتحدثون نجد أن أغلبهم يتمتم بعبارات ليست منسجمة، لكنها تعبر عن رغبة ملحة لمعانقة الأحباب، وتشنيف الأسماع بالريفية المخملية الرومانسية، وكذا تقبيل تربة أديم الأمكنة حيث عاشوا، فأية نعمة أن يكون المهاجر فوق أرض مدينته، ويحس بأنه آمن ؛الإنسان قد يطير، و قد يبحر، لكنه في الحالين لا يحس نفسه مولودا إلا حين تطأ قدماه أديم أرضه حيث يصبح، بالنسبة إليه، كل شيء مباركا، ولذيذا، حتى الشتيمة حين تمتزج بهوى الريف، وتُقال بلغة الأم يصبح لها شكل آخر،فبدل أن توغر القلوب، تغسلها من الداخل لأن الرسميات أحيانا تجشم على القلوب، وتخنق الصدور، فلا بأس أحيانا من إزالة الكلفة بين المهاجر وبين أقرانه، وأترابه.
الرائحة هي آخر ما يخلفه المهاجر حين يغادر وطنه، ويترك أهله، ولكنها أول ما يطالب بها الوطن وبإلحاح، فقبل العناق، الرائحة هي أول ما يُسأل عنها العائدون، ومن غـيّر جلده منهم، أو عمل على تغيير رائحته يلفظه الوطن، والرفاق يمدون لهم لسانهم ساخرين، ويعتبرونهم غرباء لا مكان لهم وسط الأهل والأحباب، فليس هناك ما يثير تربة الأرض أكثر من وطء أقدام فوقها تغيرت خطواتها، وأصبحت بمقاس آخر، لأن للأرض حدسها، ورائحتها نفاذة تغزو قلوب المخلصين ، و تخز- كما الإبر- المتحولين، ومن لم يخطب ودها تدير له ظهرها،وتتقيؤه، وحين تفعل الأرض ذلك يصبح المرء بلا هوية،فمن لا أرض له لا اسم له.
وحين نفرح بعودة إخواننا المهاجرين تتجمل الناظور كما العروس ،تنتعش الدنيا بوجودهم بين ظهرانينا، ويركّب الرواج أجنحة، وتندلق التجارة، وتنداح في أمكنة شتى بسوق المركب، وسوق أولاد ميمون، وفي القيسارية، فلا تكاد تجد كوة للتحرك بسبب الاكتظاظ ، ومع كل هذه الحركة، تجد من أهل التجارة من يشتكي، ويعزي بوار تجارته ليس للأزمة الاقتصادية العالمية التي أصبح المغرب الآن يتلمس آثارها، بل لبخل المهاجرين،وهم يرون أن العائدين لم يعودوا كما كانوا،برأيهم هناك حلقة مفقودة فيهم، تغير شيء ما فيهم، لم يعودوا أجوادا كما في الخوالي،إذ لا يقبل أحدهم عل الشراء إلا بعد أن يساوم البضاعة بشكل مستفز،وقد لا يقـبل عليها إلا بعد أن يكون سببا في ارتفاع ضغط البائعين، أياديهم لم تعد تُبسط بسهولة، صارت مغلولة أكثر من اللازم، حرثتها لعنة البخل ، وخضبتها أخاديد الإمساك لذلك لم تعد تتحسس الجيوب إلا لماما، كما لو أن عقارب تربض هناك بسلام؛بهذا يتحدث بعض الباعة عندنا، وهو حديث من قيل له – خطأ- من لم يستنفذ جيوب إخواننا المهاجرين المغتربين لم يذق طعم حلاوة هذا الصيف.
هؤلاء الباعة مساكين، هم يظنون أن المهاجرين، هناك وراء البحار،يغرفون البحر مالا، وينحتون الصخور ذهبا، فلو يدركون مبلغ ألمهم في كسبهم لبعض "الأورو" بعد أن يُصَدروا مع الليمون كما قال الشاعر محمد علي الرباوي متحدثا عن أب عائد من المهجر، لكن مكلوم، ومريض :
إنــــــا صدرناك مع الليمون،وقلنا
كسبنا الألزاس
مع الألزاس
بعض العائدين ( يجب الإكثار دائما من وضع المزدوجتين حول كلمة" بعض") من جهتهم، تشي سحناتهم، وطريقة ملبسهم أنهم ليسوا من هنا( مارون فقط) ، ينظرون إلى أترابهم ولا يرونهم، يترفعون كأعجاز نخل،ويمشون في الأرض مرحا ، وكما القطط يحاكون صولات الأسود...مساكين، هم يظنون أنهم فوق أرض لا تسعهم بسبب صلف مجاني، ويثيرون أعصاب حتى الذباب حين يبادرونك بالقول :
- "نحن عندنا، هناك في (يذكر المكان حيث يعيش)كذا وكذا.. الأمر مختلف عما لديكم هنا".
انتبهوا لهذا التقسيم ( عندهم وعندنا) ،أصبحت قسمة ظيزى إذا، هم عندهم، ونحن عندنا، رغم أننا معا لسنا من سلالة سام ، الحق أن بعضهم يقول ذلك عرضا دون قصد، لكن غيرهم – وهم كثر– يعنون ما يقولون، ويحرصون على أن نسمع منهم ذلك متخيلين أنهم أفاضل ماداموا يعيشون وراء البحار؛أجلاف، ومساكين لأنهم ينسون الطينة التي جُـبِلوا عليها، ولقد صدق أبناء موليير حين قالوا :
."Celui qui chemine au soleil son ombre le suit"
من حقهم أن يتبجحوا، ولكن عليهم فقط أن يعلموا، أن أكاذيبهم أصبحت بائخة مثل نكتة ، من كثرة شيوعها، لم تعد تثير ضحك أحد، ببساطة لأن العالم قرية صغيرة الآن، ونحن نعرف جيدا- وهم أيضا يعرفون- ما يحدث هنا عندنا، وما يحدث هناك حسب تقسيمهم، فعلى من يضحكون، فليوقفوا ترديد أغانيهم السخيفة.
والغريب أن بعض العائدين المخمورين بنشوة العودة إلى مدنهم بنوع من التباهي، يلبسون سراويل قصيرة تثير الضحك،ويضعون الساق على الساق، ليسردوا لأترابهم حكاياهم عن مغامراتهم، وهي بالمناسبة كلها بطولية، ومنهم من يبادرك بالقول بعد أن يهتـــــز ويهــتــش : ("ويَــجِّي حَـــدْ أمْنَــشْ"). أنت لا تسمعها، لكن الصمت ، والحركات،والإيماءات، ونظرات العيون تفضح المستور،وقد تقتنع- حين تفهم لماذا يفعل ذلك- بأنه معذور،فلا تدع صدرك بالعتاب يمور، وبحق أعز ما لديك لا تَــثُـــر، ولكن كن أنت الناصر والمنصور.
الحق كلنا عائد،تتعدد الطرق والعودة واحدة، منا من يعود وفي نفسه بعض من أمل من أن يجد دنيا الأمكنة التي تركها قد تغيرت إلى الأحسن، وأن ساكنيها قد تلطفت نفوسهم، وسكنها الأمل في التغيير إلى الأحسن، ومنا من يعود ولا يفتأ يدعو أن يجد الذهنيات قد تغيرت، وأصبحت مقبلة على النقد البناء في بناء الإنسان لا هدمه ، والنوع الثالث قد يعود وهو خاوي الوفاض، ونادي الإنفاظ ، لا في العير ولا في النفير، بَيْد أن أحسن العائدين هم الذين يأتوننا وفي قلوبهم زخم حب كبير يسع الكل، وينسحب على المكان مانحا إياه الاخضرار، وعلى الإنسان واضعا اليد في اليد في تماس كشقيِْ مقص للعودة معا إلى دار لا يقطنها غير من يمتلئ قلبه بالإيمان، ويخلو من كل حقد وضغينة.
Hirchem1@hotmail.fr
تكفي زيارة خاطفة لميناء بني أنصار لنقف على طوابير من سيارات محملة يقودها إخواننا المهاجرون العائدون من ديار الغربة ، بينهم نساء قليلات وراء المقود، وكل سيارة تتبدى من الخارج كما لو فرت من مصير مجهول إلى مصير آمن، لذلك، فضلا عن بني آدم،هناك أحمال كثيرة داخل ، وخارج السيارة، بل وهناك سيارات لا تكتفي بمن يقودها، بل تجروراءها ربيبا وقد تكتفي بحمله فوق سطحها، حابل هو بما لذ وطاب ربما، وبما تعافه النفس ربما ثانية، وفي جميع الأحوال هم عائدون غانمين، لذلك لا حرج من أن يتجشموا تعب قطع المسافات الطويلة محملين بأثقالهم، هو شعار العودة غالبا.
بعض العائدين يدلقون رؤوسهم من سياراتهم، وقد ارتسمت على محياهم ابتسامة بريئة، ليجيبوا عن أسئلة بعض المستقبلين في المطار، وحين نشاهدهم في تلفزتنا( عفوا تلفزتهم) يتحدثون نجد أن أغلبهم يتمتم بعبارات ليست منسجمة، لكنها تعبر عن رغبة ملحة لمعانقة الأحباب، وتشنيف الأسماع بالريفية المخملية الرومانسية، وكذا تقبيل تربة أديم الأمكنة حيث عاشوا، فأية نعمة أن يكون المهاجر فوق أرض مدينته، ويحس بأنه آمن ؛الإنسان قد يطير، و قد يبحر، لكنه في الحالين لا يحس نفسه مولودا إلا حين تطأ قدماه أديم أرضه حيث يصبح، بالنسبة إليه، كل شيء مباركا، ولذيذا، حتى الشتيمة حين تمتزج بهوى الريف، وتُقال بلغة الأم يصبح لها شكل آخر،فبدل أن توغر القلوب، تغسلها من الداخل لأن الرسميات أحيانا تجشم على القلوب، وتخنق الصدور، فلا بأس أحيانا من إزالة الكلفة بين المهاجر وبين أقرانه، وأترابه.
الرائحة هي آخر ما يخلفه المهاجر حين يغادر وطنه، ويترك أهله، ولكنها أول ما يطالب بها الوطن وبإلحاح، فقبل العناق، الرائحة هي أول ما يُسأل عنها العائدون، ومن غـيّر جلده منهم، أو عمل على تغيير رائحته يلفظه الوطن، والرفاق يمدون لهم لسانهم ساخرين، ويعتبرونهم غرباء لا مكان لهم وسط الأهل والأحباب، فليس هناك ما يثير تربة الأرض أكثر من وطء أقدام فوقها تغيرت خطواتها، وأصبحت بمقاس آخر، لأن للأرض حدسها، ورائحتها نفاذة تغزو قلوب المخلصين ، و تخز- كما الإبر- المتحولين، ومن لم يخطب ودها تدير له ظهرها،وتتقيؤه، وحين تفعل الأرض ذلك يصبح المرء بلا هوية،فمن لا أرض له لا اسم له.
وحين نفرح بعودة إخواننا المهاجرين تتجمل الناظور كما العروس ،تنتعش الدنيا بوجودهم بين ظهرانينا، ويركّب الرواج أجنحة، وتندلق التجارة، وتنداح في أمكنة شتى بسوق المركب، وسوق أولاد ميمون، وفي القيسارية، فلا تكاد تجد كوة للتحرك بسبب الاكتظاظ ، ومع كل هذه الحركة، تجد من أهل التجارة من يشتكي، ويعزي بوار تجارته ليس للأزمة الاقتصادية العالمية التي أصبح المغرب الآن يتلمس آثارها، بل لبخل المهاجرين،وهم يرون أن العائدين لم يعودوا كما كانوا،برأيهم هناك حلقة مفقودة فيهم، تغير شيء ما فيهم، لم يعودوا أجوادا كما في الخوالي،إذ لا يقبل أحدهم عل الشراء إلا بعد أن يساوم البضاعة بشكل مستفز،وقد لا يقـبل عليها إلا بعد أن يكون سببا في ارتفاع ضغط البائعين، أياديهم لم تعد تُبسط بسهولة، صارت مغلولة أكثر من اللازم، حرثتها لعنة البخل ، وخضبتها أخاديد الإمساك لذلك لم تعد تتحسس الجيوب إلا لماما، كما لو أن عقارب تربض هناك بسلام؛بهذا يتحدث بعض الباعة عندنا، وهو حديث من قيل له – خطأ- من لم يستنفذ جيوب إخواننا المهاجرين المغتربين لم يذق طعم حلاوة هذا الصيف.
هؤلاء الباعة مساكين، هم يظنون أن المهاجرين، هناك وراء البحار،يغرفون البحر مالا، وينحتون الصخور ذهبا، فلو يدركون مبلغ ألمهم في كسبهم لبعض "الأورو" بعد أن يُصَدروا مع الليمون كما قال الشاعر محمد علي الرباوي متحدثا عن أب عائد من المهجر، لكن مكلوم، ومريض :
إنــــــا صدرناك مع الليمون،وقلنا
كسبنا الألزاس
مع الألزاس
بعض العائدين ( يجب الإكثار دائما من وضع المزدوجتين حول كلمة" بعض") من جهتهم، تشي سحناتهم، وطريقة ملبسهم أنهم ليسوا من هنا( مارون فقط) ، ينظرون إلى أترابهم ولا يرونهم، يترفعون كأعجاز نخل،ويمشون في الأرض مرحا ، وكما القطط يحاكون صولات الأسود...مساكين، هم يظنون أنهم فوق أرض لا تسعهم بسبب صلف مجاني، ويثيرون أعصاب حتى الذباب حين يبادرونك بالقول :
- "نحن عندنا، هناك في (يذكر المكان حيث يعيش)كذا وكذا.. الأمر مختلف عما لديكم هنا".
انتبهوا لهذا التقسيم ( عندهم وعندنا) ،أصبحت قسمة ظيزى إذا، هم عندهم، ونحن عندنا، رغم أننا معا لسنا من سلالة سام ، الحق أن بعضهم يقول ذلك عرضا دون قصد، لكن غيرهم – وهم كثر– يعنون ما يقولون، ويحرصون على أن نسمع منهم ذلك متخيلين أنهم أفاضل ماداموا يعيشون وراء البحار؛أجلاف، ومساكين لأنهم ينسون الطينة التي جُـبِلوا عليها، ولقد صدق أبناء موليير حين قالوا :
."Celui qui chemine au soleil son ombre le suit"
من حقهم أن يتبجحوا، ولكن عليهم فقط أن يعلموا، أن أكاذيبهم أصبحت بائخة مثل نكتة ، من كثرة شيوعها، لم تعد تثير ضحك أحد، ببساطة لأن العالم قرية صغيرة الآن، ونحن نعرف جيدا- وهم أيضا يعرفون- ما يحدث هنا عندنا، وما يحدث هناك حسب تقسيمهم، فعلى من يضحكون، فليوقفوا ترديد أغانيهم السخيفة.
والغريب أن بعض العائدين المخمورين بنشوة العودة إلى مدنهم بنوع من التباهي، يلبسون سراويل قصيرة تثير الضحك،ويضعون الساق على الساق، ليسردوا لأترابهم حكاياهم عن مغامراتهم، وهي بالمناسبة كلها بطولية، ومنهم من يبادرك بالقول بعد أن يهتـــــز ويهــتــش : ("ويَــجِّي حَـــدْ أمْنَــشْ"). أنت لا تسمعها، لكن الصمت ، والحركات،والإيماءات، ونظرات العيون تفضح المستور،وقد تقتنع- حين تفهم لماذا يفعل ذلك- بأنه معذور،فلا تدع صدرك بالعتاب يمور، وبحق أعز ما لديك لا تَــثُـــر، ولكن كن أنت الناصر والمنصور.
الحق كلنا عائد،تتعدد الطرق والعودة واحدة، منا من يعود وفي نفسه بعض من أمل من أن يجد دنيا الأمكنة التي تركها قد تغيرت إلى الأحسن، وأن ساكنيها قد تلطفت نفوسهم، وسكنها الأمل في التغيير إلى الأحسن، ومنا من يعود ولا يفتأ يدعو أن يجد الذهنيات قد تغيرت، وأصبحت مقبلة على النقد البناء في بناء الإنسان لا هدمه ، والنوع الثالث قد يعود وهو خاوي الوفاض، ونادي الإنفاظ ، لا في العير ولا في النفير، بَيْد أن أحسن العائدين هم الذين يأتوننا وفي قلوبهم زخم حب كبير يسع الكل، وينسحب على المكان مانحا إياه الاخضرار، وعلى الإنسان واضعا اليد في اليد في تماس كشقيِْ مقص للعودة معا إلى دار لا يقطنها غير من يمتلئ قلبه بالإيمان، ويخلو من كل حقد وضغينة.