ذِئــاب ونِعـــاج


ذِئــاب ونِعـــاج

مصطفى حيران:

إذا ما ذهبنا رأسا، مع بعض التحليلات الأخيرة للمفكر المغربي "عبد الله العروي" في كتابه الصادر حديثا بعنوان "من ديوان السياسة" فإن الوضع المغربي الراهن، مُركَّبٌ ومُعقَّدُ بما لا يُقاس عليه، من ذلك أنه "لا وٌجود لحاكم فاسد دون محكوم فاسد".. وإذا تجاوزنا تعبيرات التلميح "العروية" - نِسبة لعبد الله العروي - فإن فساد الحال والأحوال، ليس من مسؤولية الحاكم فحسب، كما يُردد بُسطاء الوعي، بل إن المحكوم يتحمل قِسطا من السببية، إن لم يكن أفدح، فإنه على الأقل، بِقَدر من الأهمية، بما يُمكِّن الحاكم من إحكام قبضته على الرِّقاب، ويتصرف كما يشاء في أحوال أصحابها، وهو ما عبَّر عنه بإيجاز وبلاغة، المثقف المشرقي الكلاسيكي "جمال الدين الأفغاني" حينما قال: "لو لم يجدوكم نِعاجا لما كانوا ذِئابا".

وبرأي العروي دائما، في نفس المرجع المذكور، هناك نوعان من المجتمعات، الأول يدور ويمتد على نفس مِحور السلطة المركزية (المخزن في الحالة المغربية) وبالتالي فإنه يُعيد إنتاجها دوما، أما الثاني فيفضُلُ عنه دوران آخر لا يلتصق بالمركز، أي السلطة، بل بالمجتمع، ومن المهم جدا، الإطلاع على الشروحات التربوية والدينية والسياسية والتاريخية، التي ساقها "العروي" لهذه الثنائية النوعية في التنظيم السياسي، حيث يُمكن الوقوف على بعض من أهم خصائص مُعوقات التحديث في المغرب، ومن ذلك، حسب تحليلات "العروي" فنحن مجتمع يُراوح مكانه، ليس لأن في البلاد سلطة مركزية (هي المخزن) تُريد ذلك، بل لأن المجتمع بدوره "ينسج" عبر منظومته التربوية والإجتماعية، ذِهنية وسلوك مخزنيين، وبذلك فإن المجتمع يمنح للمخزن أهم ركائز بقائه وتجذره واستمراره.

لنتسائل: تُرى، لماذا لم تُفلح كل أشكال التنظيم التربوي والإجتماعي والسياسي.. إلخ، على علاتها، في خلق تراكم للتحديث؟

إن في البلد على كل حال، عشرات مؤسسات الدولة، بمختلف أشكالها، والأحزاب والنقابات والجمعيات.. وغيرها من أشكال التنظيم الإجتماعي، ومع ذلك ظل حال المغرب والمغاربة، كأنما عتبة البداية ما زالت، تنتظر أن نتخطاها.. لنشرح أكثر: إن وجود الحكومة، والبرلمان وعشرات الأحزاب، مثلا، لم يمنع من أن تظل سلطة المخزن، بنواته الملكية، هو الفاعل الأساسي في حقول تدبير الشأن العام، على نحو يُلغي، ويا للوضع المُفارق، كل "المؤسسات" الأخرى، فهل السبب في ذلك يعود إلى "طُغيان" سلطة المخزن ووقوفها سدا منيعا، ضد أي فاعل آخر، من خارج دائرتها المخزنية، الشديدة التمركز والتركيز؟ أم أن "مؤسسات" المجتمع من هيئات سياسية ونقابية واجتماعية.. إلخ لا تُريد، عن كسل أو تخاذل، أن تقوم بأدوار أمامية في الشأن العام؟

قد تتشعب الأجوبة، وتتناسل كل حسب منظوره واجتهاده، لذا سأقترح جوابا من منظور كاتب هذه السطور، مشفوعا بدعوة إلى تجاوز خداع النظرة الظاهرية للأمور، فنحنُ حينما نقول مثلا، إن الأحزاب ضعيفة، والمجتمع متخلف، وبالتالي ليس في مقدورهما مُسايرة وتيرة التدبير المُلحة لشتى مناحي الحياة العامة، إنما نقصد بذلك ضِمنا، أن عِلَّة "الضعف" فيها جانب إرادي، بمعنى أن الموصوف بالضعف، يختار "طواعية" هذا الوضع الدُّوني، وهو ما لا يصح معه القول بالضرورة، أن سبب الضعف مصدره من خارج الموصوف، أي المجتمع وأحزابه، كأن نقول مثلا، أن المخزن مارد كبير "يعفط" على ما دونه قوة، ويُمارس عليه إرادة الغالب اتجاه المغلوب. أُريد الخلوص من هذا النقاش، إلى القول أن إرادة الضعف كامنة في الطرف الضعيف، وبالتالي "رضاه" بهذا الوضع الدوني.

فأنت، تُصر على أن تظل في وضع "غير مسؤول" لأنك تنظر دائما إلى جهة ما، تعلوك وتنسب إليها، على نحو لا عقلاني، كامل المسؤولية، فمثلا حينما تدلف لاهثا إلى محطة القطار، وتجده قد انطلق بدونك، تقول: "مشى عليا التران".. بدلا من "فلَّتْت التران".. وإذا أسقطنا هذا الظرف البسيط على ما هو أهم فأهم، من شأننا العام، فسنجد، أنه ثمة دائما "قوة" فوقية مسؤولة وغير مسؤولة في نفس الآن، ننسب إليها سوء الحال، لكننا لا نرى ضرورة لمُحاسبتها، وتفسير ذلك، أننا مسؤولون حتى النخاع، عن هذا السوء، لذا نتهرب من تحديد مسؤول "ملموس" (نحن) ونفضل أن ندور في حلقة مُفرغة تعبر عنها، لغتنا، كما في حالة "مشى علي التران".

"لم يحصل عندنا بعد - بتعبير عبد الله العروي - الفُطام الضروري بين الغريزة والعقل، بين الإتباع والإستقلال. لم ننتقل من التوكل إلى الهمَّة، من المُبايعة إلى المُواطنة". إنه وضع "أبدي" بئيس من منظور عِلْمَيْ السياسة والإجتماع، حيث يظل الحاكم في وضع "القوة" الخرافية، والمحكوم، في وضع الدونية الحيوانية، وبينهما تاريخ طويل من المُعاناة، ما زال لم يبدأ بعدُّ، لذا، لاشيء ذا بال، يمنع الذئب من نشب مخالبه، ثم أنيابه، في لحم النعجة الطري.