المدرسة المولوية .. مشتل تربوي يدرّب ولي العهد على ممارسة الحكم


المدرسة المولوية .. مشتل تربوي يدرّب ولي العهد على ممارسة الحكم
د.محمد شقير

تشكل العلاقة التي تجمع بين الملك ومجموعة من زملائه وأصدقائه قناة رئيسية من تصريف الحياة السياسية بالمغرب؛ فقد لعب بعض أصدقاء الملك الراحل الحسن الثاني (وبالأخص رضا كديرة، وأحمد عصمان) أدورا سياسية عكست بعض مظاهر سياسة هذا الملك وكيفية تدبيره لشؤون الحكم، وتحكمه في مكونات النظام السياسي، في حين عكست الأدوار التي أسندت إلى بعض أصدقاء الملك محمد السادس منذ تسلمه عرش أبيه هذه الاستمرارية في إدارة الشأن السياسي بالبلاد؛ فقد احتل بعض أصدقاء هذا الملك، خاصة فؤاد عالي الهمة، أو ياسين المنصوري، مناصب سياسية حساسة في النظام، جعلت منهم شخصيات محورية يتجاوز نفوذها كل صلاحيات الشخصيات العمومية المنتخبة أو المعينة، من رئيس حكومة، ورئيسي البرلمان، ووزراء، بمن فيهم وزيرا الداخلية والعدل وكبار ضباط الجيش أو قيادات المؤسسة الأمنية...وهذا ما يطرح التساؤل حول مدى التصاق هذه الظاهرة بنظام حكم يقوم بالأساس على بنية عائلية، ويتحرك وفق علاقات شخصية.

وهكذا فإن الأساس العائلي الذي يقوم عليه نظام الحكم بالمغرب أفرز شبكة من العلاقات الشخصية التي تتخذ إما شكل علاقات قرابية أو مصاهراتية، أو تتمثل في علاقات صداقة تجمع بين الملك وبعض أصدقائه. فبخلاف المقولة الثابتة في السياسة "لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في السياسة"، فإن نظام الحكم في المغرب تمأسس منذ عدة قرون على شبكة من العلاقات الشخصية، بما فيها تلك التي تربط بين السلطان وبعض من كان يطلق عليهم في الأدبيات السلطانية بخاصة السلطان، أو بين الملك وبعض زملائه وأصدقائه .

وعادة ما تتخذ هذه العلاقة وضعا سياسيا خاصا في نظام يحتكر فيه الملك صلاحيات شبه مطلقة، وتتقولب فيه مؤسساته وفق أسلوب الملك الشخصي في الحكم وطبقا لمزاجيته السياسية والنفسية .



وبالتالي، فإذا كان من الطبيعي أن يكون للملك كشخص رفقاء وأصدقاء، فإن هذه العلاقة الشخصية التي تكون بينه وبين صديقه أو أصدقائه تكتسي طابعا سياسيا خاصا في نظام مخزني يقوم على مجموعة من الثوابت المرجعية في تحديد العلاقات الهرمية والتراتبيات الاجتماعية. فداخل هذه الدائرة من الزملاء والأصدقاء ينشأ وريث العرش ويتلقى أساليب التنشئة على إعطاء الأمر وفرض الهيبة السلطانية.. لذا حرص السلاطين على انتقاء رفقاء أولياء العهد وزملائهم بعناية، وفق معايير خاصة تقوم على النسب، والنجابة، والنباهة التي تدربهم على التميز، والدخول في منافسات للتفوق ستؤهلهم في المستقبل على الحكم وفرض الطاعة .

تكريس التفوق الملكي

عمل النظام المخزني على إنشاء المدرسة المولوية التي تعتبر المؤسسة الأساسية لتخريج الطبقة المخزنية وإعادة إنتاجها؛ فالمعهد المولوي يعتبر المشتل السياسي الأول لتربية الأمراء، بمن فيهم ولي العهد والنخبة التي تشكل النواة الصلبة للنظام المخزني، سواء للقيام بمهام التسيير الإداري أو الاقتصادي أو السياسي لدواليب الدولة. وقد تحدث الأستاذ عبد الهادي بوطالب من خلال سيرته السياسية (نصف قرن في السياسية) عن نظام هذا المعهد كما يلي: "كان المعهد المولوي جزءا من القصر: والمعهد عبارة عن مدرسة فيها قسم ابتدائي كان يدرس فيه الأمير مولاي عبد الله الابن الأصغر للسلطان، وقسم ثانوي يدرس فيه الأمير ولي العهد مولاي الحسن، وكانا يقيمان في المعهد ويخضعان لنظام داخلي رفقة 20 تلميذا منتقين من مدارس المغرب، من بين أكثر التلاميذ نجابة، وأقواهم دراية وكفاءة، وينتمون إلى عامة الشعب، وفيهم من كان آباؤهم يتبوؤون مناصب عليا في مدينة من المدن".

إن هذا النظام ما هو إلا تطوير وعصرنة لنظام تربوي سلطاني سابق يرمي بالأساس إلى تكوين النخبة السياسية التي ستحيط بولي العهد عندما سيتولى الحكم، وبالتالي فإنه يتم الحرص على تكوينها ليس فقط على المستوى المعرفي، بل أيضا على زرع وشائج التلاحم بينها وتوطيد وترسيخ علاقات الولاء والوفاء، والمتمحورة بالأساس حول شخص ولي العهد الذي سيصبح ملكا بعد وفاة والده. ولعل هذا ما تنبه إليه أحد المتتبعين عند إشارته في ما يتعلق بتربية ولي عهد الملك محمد السادس إلى ما يلي:

"حين بلغ خمس سنوات، وفي فصل لا يتعدى عدد تلاميذه الخمسة، كلهم ذكور، جلس الأمير مولاي الحسن، يوم 10 أكتوبر 2008، إلى طاولة الدرس لـ"المرة الأولى" بالمدرسة الأميرية بالقصر الملكي بالرباط (...) كان أول ما قام به مولاي الحسن داخل حجرة الدراسة هو تعليقه كلمتي "سميت سيدي" على السبورة تحت أنظار زملائه. هذا اسم ولي العهد واللقب الذي يطلق عليه في الدولة العلوية.. هو كذلك الاسم الذي سيناديه به زملاؤه، كما أنه الاسم الذي اعتاد الخدم وأهل البلاط والوزراء والموظفون إطلاقه على الأمير، وقد حمله قبله والده الملك محمد السادس، وجده الملك الراحل الحسن الثاني، ومن سبقه من أولياء العهد".

من هنا، يتضح أن تنشئة ولي العهد وسط زملاء ورفقاء يكون الهدف منها تربيته على تكريس تميزه الشخصي والعمل على إظهار تفوقه وسط أول (محيط ملكي)، تنعكس من خلاله التراتبية السياسية التي ينبني عليها النظام المخزني، وكذا الاحتكاك بالشرائح الشعبية التي ينحدر من بينها بعض رفقاء وزملاء ولي العهد وشخص الملك الذي سيحكم الرعية بمختلف تكويناتها الشعبية في المستقبل. وفي هذا السياق، وصف الأستاذ السابق في المعهد المولوي والمستشار السابق للملك الراحل الحسن الثاني عبد الهادي بوطالب المعهد المولوي بأنه "كان من جهة نخبويا لأنه معهد الأمراء، ومن جهة ثانية شعبيا لأن المرافقين للأمراء كانوا من أبناء الشعب؛ فقد كان هناك تنويع في خلفيات التلاميذ الذين يتم انتقاؤهم للدراسة في المعهد المولوي؛ فزملاء دراسة الراحل الحسن الثاني كان فيهم من جاء من البوادي والجبال ومن كان آباؤهم شخصيات تشغل مناصب مهمة (قياد وباشوات)، وفيهم من كانوا ينتمون إلى الأسرة العلوية.

- تكريس الجانب الإنساني للملك

وإلى جانب هذه التنشئة على التفوق السياسي فإن إحاطة ولي العهد بشبكة ضيقة من الزملاء والأصدقاء يكون الغرض منها إظهار الجانب الإنساني لولي العهد وملك المستقبل، وإشباع نفسيته بالجانب العاطفي القائم على الثقة والحميمية؛ فقد جرت العادة في تربية الأمراء منذ صغرهم على فصلهم عن محيطهم الأسري والعائلي، بحيث أن رؤية آبائهم وأقربائهم تتم طبقا لنظام توقيتي صارم. وبهذا الصدد وصف روم لاندو بعض مظاهر تربية الأمراء، بمن فيهم ولي العهد مولاي الحسن آنذاك كما يلي:

«Le ROI a choisi comme nurse pour son petit Melle Espagnet une française qui s’est vue remplacée par une excellente gouvernante Melle Meyer qui a resté avec lui et sa sœur Aicha plusieurs années dans la villa des princes , une villa qui donne au palais du sultan .Les princes vivent seuls mais leurs père et mère leur rendent visite plusieurs fois dans la journée … »

ويعكس هذا النص أن تربية الأمراء منذ صغرهم، وفصلهم عن عائلتهم يكون الغرض منه تحسيسهم منذ طفولتهم بتميزهم عن باقي الأطفال الآخرين، وضرورة الاعتماد على أنفسهم بعيدا عن عائلتهم .

ولعل هذا الشعور يتقوى لدى ولي العهد، ملك المستقبل، الذي يخضع لتربية خاصة تقوم على ضرورة استقلاليته بشخصيته من خلال انفراده بسكنه الخاص بمجرد بداية بلوغه سن الشباب. وهكذا كتب لاندو بهذا الصدد ما يلي:

«When he reached his eighteeth year , tue sultan that this eldest son sould have a modern establishement of his own ,away from the royal palace ,and ahandsome built souissi…one of french professorc Mr Fleury lived with him at villa».

وقد عكس خطاب الملك محمد الخامس بمناسبة الذكرى 27 لميلاد ولي العهد بتاريخ 9 يوليوز 1956 بعض مظاهر هذه التنشئة السياسية كما يلي:

"...ولما ترعرعت يا بني اخترت بقاءك تحت سماء المغرب ليتم تكوينك الثقافي في بيئة مغربية، فبنيت لك مدرسة خارج القصر ليتربى فيك الاعتماد على النفس، فحرمتك من مجاملة الخادمات، وحنان المربيات، حتى تزدهر شخصيتك، وتصبح عصاميا بارزا، قبل أن تكون أميرا، ثم أحطتك برفقاء من مختلف طبقات الشعب، لأنني كنت أريد أن أعدك إعدادا منتزعا من بيئة بلادك، فكنت أحرص أن يعاملك رفقاؤك كباقي إخوانك التلاميذ تقارعهم الحجة بالحجة، فلا يخضعون لك إلا بقدر ما تبديه من تفوق ومعرفة، وهذا ما كنت أرجوه من المدرسة المولوية، انعزال عن القصر، واعتماد على النفس، وخوض معترك الحياة...لقد كنت صارما مع الأساتذة، وكنت ألح عليهم أن يعودوك على الطاعة والامتثال، وألا يتساهلوا معك وألا يحترموا فيك إلا القيم الإنسانية المجردة، وما أفاء الله عليك من ذكاء وعلم وأدب وعمل، وغرضي أن تتعلم الطاعة لتعرف في يوم من الأيام كيف تملي أوامرك لأن من تلقى الطاعة جيدا أملاها جيدا ...

يا بني

لقد كنت مدققا وملحا أن يسود النظام حياتك كما كنت حريصا على أن أنسيك جو الملك والإمارة لأمتعك بحنان الأب الرؤوف".

وعلى نفس المنوال، خضع كل من ولي عهد الملك الحسن الثاني (سميت سيدي محمد) وولي العهد الحالي (سميت سيدي الحسن) لنفس التربية بالمعهد المولوي.

ففي عهد السلطان محمد بن يوسف كان ولي العهد مولاي الحسن يتلقى تكوينا مزدوجا على يد أساتذة فرنسيين ومغاربة. ومن الأساتذة الأوائل في المعهد المولوي الحاج محمد باحنيني الذي صار بعد الاستقلال وزيرا للعدل وأمينا عاما للحكومة، ومحمد الفاسي الذي كان مديرا لجامعة القرويين ودرس بالمعهد المولوي تاريخ المغرب قبل أن يصبح أول وزير للتربية الوطنية بعد الاستقلال، وعبد الرزاق البرنوصي الذي كان أستاذا للنحو والصرف، وعبد الهادي بوطالب الذي كان يدرس تفسير القرآن وتاريخ الإسلام والنصوص العربية، والمهدي بنبركة الذي كان يدرس الرياضيات .

الملك محمد السادس قضى بدوره فترة الدراسة الابتدائية والثانوية في المعهد المولوي. وبالإضافة إلى المواد السابق ذكرها فقد حرص الملك الراحل الحسن الثاني على أن يضيف مواد أخرى لتعزيز تكوين ولي عهده؛ فكانت الدروس تشمل بعض المهارات اليدوية كالنجارة، إلى جانب محاضرات في الثقافة العامة التي يتم خلالها مناقشة مواضيع وقضايا فكرية متنوعة .

ولي العهد الأمير مولاي الحسن، كوالده الملك محمد السادس، وجده الملك الراحل الحسن الثاني دخل المعهد المولوي كجزء من التكوين الذي يتلقاه ملك المستقبل. وقد بدأ ولي العهد مساره الدراسي بالمعهد المولوي يوم عاشر أكتوبر من سنة 2008، حين كان سنه لا يتجاوز خمس سنوات. ونقلت القنوات الوطنية يومها ولوج ولي العهد إلى فصول الدراسة لأول مرة رفقة زملائه الخمسة.