حين تناسلت بيننا ثقافة الانانية كالوباء الخبيث.


او حين تتحول برامجالقنوات العمومية إلى آلية للإلهاء وتحويل الأنظار عن المشاكل الآنية.

حين تناسلت بيننا ثقافة الانانية كالوباء الخبيث.
محمد بوتخريط . هولندا


بعد يوم عمل طويل وشاق وبعض الالتزامات، ألقيت بثقلي على الأريكة في المساء ، وأرسلت بصري عله يرتاح قليلا في ربوع بعض قنواتنا التلفزية .
بدأت رحلة البحث . الواقع وكالعادة كان مريرًا؛ كمية العبث كانت مهولة، وكمية الهزالة كانت كارثية..
رسائل غير أخلاقية بالمرة تبثها بعض البرامج والمسلسلات ..الغش، الكذب، التحايل ، الخيانة. ..مقاطع هنا وهناك بمحتوىات شبه جنسية ، لا تتناسب لا مع عمر الأطفال ولا حتى عمر الشباب...أغاني وموسيقى صاخبة خالية من كل شيئ ، عدا من التمييع و السفافة في الطرح والكلمة والأفكار.
وأما السياسة ففساد وعهر واستخفاف يحيط بمكاتب الساسة وبالحكومات والأجهزة بل وبكل القطاعات .

وقعت عيناي فجأة وأنا أنتفل من قناة لقناة ،على ممثل بدا لي وكأني أعرفه و منذ زمان، سمعته يتحدث في السياسة وعن السينما ، اعتقدت انه برنامج سياسي أو فني عن السينما او ما شابه ذلك...ضبطت استقبال القناة جيدا ، القناة التي لم تكن سوى القناة الثانية المغربية .. وأنا الذي لا تربطني بالقناة أدنى رابطة ، لكني قلت لا بأس ، سأتابع البرنامج ما دام فيه سياسة وسينما.
وقبل حتى أن أُعد قهوة المساء ، أَطل "مقدم" البرنامج ، وهو الآخر أعرفه ومنذ زمان ، وهو المعروف بتنططه بين البرامج المختلفة وكأن فضائحه في برامجه الاولى لم تكفيه... مهازل بهلوانية .. يتحرك كالبهلوان تنتفخ أوداجه وهو يطلق قهقهات عالية كمومس "خطفها الباسطيس"..

ها هو إذن يعود ليقدّم برنامجا يشبه مهزلة بهلوانية و دوره فيه مهزلة حقيقية فعلا .. تنهدت بداخلي وكأني أعيد لك الكلام ..كيف كنت وكيف أصبحتَ الآن ، كِي كَونتي و كِي وليتي !!
هي برامج وأخرى لأناس لم يكونوا يوما من ذوي الإختصاص لا الاعلام ولا الصحافة، هم أناس متطفلون على الميدان وفي تحصيل معاشهم.

" والآن ننتقل بكم الى لعبة أخرى...الكل يعرفها ... هي لعبة الكرسي". هكذا سمعت ذات المُنشط يقول.
غاب صوت الممثل إياه الذي اعتقدت أنه لازال يتحدث في السياسة وعن السينما ، بينما كانت فقط ثواني معدودة كان يقدم من خلالها نفسه للجمهور...والظاهر - ولسوء حظي- أني أمسكت بجهاز الريموت كنترول في وقت غير مناسب تماما... وغفلت عن كون الاستعانة بمثل هؤلاء "النجوم" هو فقط لاستقطاب المشاهد والتغطية على رداءة المضامين...

حين سمعت مقدم البرنامج ينطق" لعبة الكرسي" ذهب تفكيري وخيالي الى ابعد من كونها لعبة ، ربما لما للكرسي في مخيلتي من معاني ودلالات..! كرسي الحاكم، كرسي البرلمان ، " الكرسي الذي يبرر الوسيلة " نظرية ماكيافيلي ... قذارة المطبخ السياسي الذي تجسد فيه "لعبة الكرسي" معانى الرموز المختفية خلف الحجب... هذا الكرسي الذي يكون كل شيء في الطريق إليه متاحا ومغفورا ما لم يأت بفشل.
ثم بدأ المُقدم البهلوان إياه يشرح "اللعبة" وياليته ما فعل!!
" تقوم اللعبة على وضع مجموعة من الكراسي في شكل دائرة مغلقة، ويقف المتبارون في دائرة محيطة بالكراسي، لتنطلق بعد ذلك أغنية أو موسيقى مع التحكم في إيقافها فجأة ليتسابق المتبارون للجلوس على الكراسي والتي يكون عددها أقل بواحد من عدد اللاعبين ومن يبقى بدون كرسي يخرج من اللعبة خاسراً ومع كل دورة يقل عدد الكراسي وهكذا، حتى لا يبقى إلا لاعب واحد في نهاية هذه اللعبة ويكون هو الفائز الوحيد الاوحد.."
وقتها أدركت أن البرنامج ليس لا برنامجا فنيا ولا ادبيا ولا سياسيا..ولا حتى ترفيهيا ..هو برنامج تافه مغلف بغلاف ترفيهي.
والغريب أن المتبارين لم يكونوا اطفالا أو أناس "عاديين" .. المتبارين ساسة وكتاب ومثقفين ومغنيين وممثلين..هم في آخر المطاف والى حد ما ، مسؤولين ، بل وقد يكونوا قدوة للآخرين ...لكن يا حسرتاه..وأي قدوة !؟ قدوة الأنا العالية!
بدل أن يُعلموا الاجيال ثقافة التلاحم والانتصار الجماعي ، يعلمون لهم ثقافة الفوز الفردي..ثقافة "حيد على راسي وشقف"...
ثقافة أُناس تناسلوا بيننا كالوباء الخبيث ، يعلموننا ثقافة الإنتصار الفردي والفرح الفردي والسعادة الفردية من خلال إزاحة الجميع...قمة الأنانية!
ثقافة "أنا فقط الرابح، وغيري من أصدقائي يخسرون" ، بدلا من أن تترسخ في أذهاننا ثقافة "كلنا نربح"..."لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". يعملون لنا مبدأ...(أنا .. وليذهب الجميع إلى الجحيم وأن فوز الآخرين يعد هزيمة لي .) .. بدل ان يعلموا الاجيال ثقافة "أنا أربح وأنت تربح وكلنا نفوز ، وكلنا نبحث عن المصلحة المشتركة.
الفوز لا يعني أن نقصي الآخرين، الفوز لا يعني الإنتصار الشخصي ، بل هو العمل على مشاركة الجميع هذا الربح، ويتقاسم الجميع الفوز و الانتصار.

أذكر هذا اليوم، وأنا أتذكر أني وقبل مدة اطلعت على ما يشبه هذه اللعبة ، وطبعا ليس لدى هؤلاء البهلوانيين . بل كانت لدى اليابانيين..هي نفس اللعبة .."لعبة الكراسي "، وكان برنامجا حول رياض أطفال في اليابان. هي "لعبة الكرسي" ذاتها لكن بمضمون آخر أكثر نضجا ، حيث يكون عدد المتبارين أكبر من عدد الكراسي، وبالتالي ،إذا بقي أحدا بدون كرسي، يخسر الجميع، فيحاول جميع "الاصدقاء" المتبارين احتضان بعضهم البعض لكي يستطيع مثلاً خمسة متبارين الجلوس على أربعة كراسي، ومن ثم يقومون بقليص عدد الكراسي تباعاً، من خمسة الى اربعة الى ثلاثة وهكذا دواليك ، مع التأكيد على قاعدة ثابتة أساسية هي أن " على المتبارين التأكد من أن أحداً منهم لا يبقى بدون كرسي، وإلا خسروا جميعاً ".

وهكذا يتعلم الجميع قاعدة " ان ثقافة الفوز لا تتم بدون مساعدة من الآخر".. وهي ثقافة التلاحم والتعايش والتعاون والعمل المشترك بروح الفريق والنجاح الجمعي...ثقافة الرابح الذي يعترف بغيره ويدعوه لكي يجلس بجواره على الكرسي، ليكون هو الآخر رابحاً مثله. وليس كما في ثقافة "لعبة الكرسي" في برامج البهلوانيين، ثقافة التنافس الأناني، والتي هي أصلا وللأسف نفس الثقافة السائدة في البلد...ونفس العبث المعيب...في خضم برامج تتحول عن قصد و مع سبق الاصرار والترصد إلى مجرد آليات للإلهاء والتسلية، والدفع الى المساهمة في تحويل انشغالات و أنظار الرأي العام عن المشاكل الآنية الحقيقية والسياسات العامة المقرّرة من طرف النخب السياسية والاقتصادية، وبالتالي المساهمة في نوع من الضبط الاجتماعي..
ولنجاح المهمة، يتم التركيز في إنتاج مثل هذه البرامج على الإثارة والشكل والجاذبية لاستقطاب المشاهد، بدل التركيز على القيم الاخلاقية و الفكرية أو الثقافية للمضامين..

فعلا..شتان بين البرامج و..البرامج و شتان بين الكراسي وبين...الكراسي.