الرِّوَايَة التِي أَثَارَت الرُّعْبَ في قُلُوبِ المَلاَيِين


في ذكرى»ألكُونْتْ دْرَاكُولاَ» للايرلندي بْرَامْ سْتُوكَر

غرناطة ـ «القدس العربي» من محمّد محمّد الخطّابي:


قرن من الزّمان وثلاث سنوات على وفاة الكاتب الإيرلندي بْرَامْ ستُوكر (1847- 1912) مُبتكرالشخصيّة الشّهيرة الرّهيبة والمُفزعة مصّاص الدّماء المعروف بـ»دراكولا».

عندما كان هذا الكاتب الغريب الأطوار يحْتضر، طفق يهمس بصوتٍ خفيض، وهو يشير بسبابته اليُمنى إلى شيء، أو جسمٍ، أو إهابٍ، يشبه الظلّ، كان يتراءى له في رُكنٍ قصيّ داخل غرفة أحد الفنادق في مدينة الضّباب لندن التي قضى فيها أيامَه الأخيرة قبل أن تنشب المنيّةُ فيه أظفارَها، مثلما كان يغرز دراكولا- الشخصيّة التي ابتكرها – أنيابَه في عنق ضحاياه..! إذ حسب شهود عيان من أصدقائه المقرّبين الذين كانوا حاضرين معه في تلك اللحظة الرّهيبة، كان يقول بصوتٍ مُتلعثم ومتقطّع : «سْتِريغُوِري.. سْتِريغُوري» ومعناها باللغة الرّومانية «الرّوح الشرّيرة..»!.

ومرّت من جهةٍ أخرى مئة وثماني عشرة سنة على خلقه وابتكاره لهذه الشخصيّة المنبوذة من طرف جميع القرّاء، الذين قرأوا هذا العمل الرّوائي، أو الممقوتة من لدن المشاهدين، الذين شاهدوا الأفلامَ التي نقلت هذا الموضوع المُخيف إلى الشّاشة الكبيرة في العديد من المرّات، بعد أن تلقّف صُنّاعُ الفنّ السّابع بلهفة عملَه الأدبي الإبداعي الجريء، الذي ما انفكّ يبثّ الرّعبَ في القلوب إلى يومنا هذا. إذ كان الكاتب برام ستوكر، قد نشر هذا الكتاب لأوّل مرّة عام 1897. وقد اختلف النقاد، وتعدّدت آراؤهم في تقييم أعمال هذا الكاتب، وبشكلٍ خاص روايته المتفرّدة عن أسطورة مصّاص الدّماء المعاصر (دراكولا).

أمّ الرّوايات السّوداويّة

الكاتب الإيرلندي برام ستوكر (1847- 1912) لا يذكره القرّاء والمشتغلون بالأدب ككاتب كبير أو كأديب مبدع، بل إنهم يذكرونه كمبتكر لهذه الشخصيّة المُفزعة الكونت دراكولا، حيث اعتبر بعض النقّاد هذه الرّواية أنها أمّ الرّوايات السّوداويّة التي كُتبت في هذا الصّنف من الإبداع، بل اعتبرها البعضُ من روائع أدب الإثارة والرّعب. يشير الناقد الإسباني رودريغو فريسان: «أنّ ستوكر لم يكن كاتباً جيّداً أو متميّزاً، ولكنه في ما بعد أمكنه أن ينفرد بتقديم هذا العمل الرّائع». ويشير الناقد الإسباني: «إنه على امتداد الستمئة صفحة التي تتألف منها روايته لا يظهر الكونت دراكولا فيها إلاّ في خمس عشرة صفحة فقط على طريقة «قلبٌ في الظلمات» لجوزيف كونراد، أن تخلق عرضاً مثيراً حول شخصية لا تظهر في الرّواية إلاّ لماماً، لأمرٌ يبعثُ على الإعجاب حقّاً، ولكنّ الأكثر إعجاباً من ذلك هو الجوّ العام الذي تدور فيه الأحداث في خضمّ عناكب هذه الرّواية السّوداوية الحالكة، فالسّرد يحوم ويتركز وينصبّ كله على الشخصّية الرئيسّية في هذه القصّة المثيرة، إنّ برام ستوكر يكفيه فخراً أنّه خلق لنا هذه الشخصية التي تجسّد مصّاص الدماء المعاصر». ويرى ناقد إسباني آخر وهو غونسالو سواريس من جهته: «أنّ براعة برام ستوكر محصورة بشكلٍ خاص في توظيف العناصر، والآليات التي لها صلة بالسّادية والدّم، ما عدا ذلك فهو كاتب يبعث على الملل». ويضيف هذا الناقد مازحاً: «كلّ منّا له وَحْشُه الذي يعيش بداخله، إلاّ أنه في ما يتعلق بي شخصيّاً فالوحش الذي يعشش في أحشائي ليس من هذا النّوع».
ويعود رودريغو فريسان: ليؤكّد لنا أنّ «دراكولا» رواية رهيبة إشعاعاتها، وإسقاطاتها قد تفضي إلى مرض الآخرين، فقد كان لها امتدادات أدبية متشعّبة وانعطافات، وروافد متعدّدة ندّت، وانبثقت عن الرّواية الأصلية لمصّاص الدّماء الأصلي الذي ابتكره برام ستوكر، كما أنه كانت لها عدّة صيغ سينمائية ومسرحيّة وفي مختلف فنون الإبداع الأخرى، ولا عجب فقد كان ستوكر في الواقع في البداية ينوي كتابة مسرحية، إذ بعد نشر رّواية دركولا عام 1897، تمّ العثور شمال غرب بنسلفانيا على 541 صفحة من المخطوط الأصلي لهذه الرّواية المكتوب بالآلة الرّاقنة، وكانت تتخلّل هذا المخطوط العديد من التصحيحات والتنقيحات، وفي غلافه الخارجي نجد عنوان الرّواية الأوّل وهو: «الذين لا يموتون)» أو ألـ»لاّ أموات»، وتحت هذا العنوان نجد اسمَ المؤلف برام ستوكر، ويتجلّى لنا من ذلك أنّ الكاتب لابدّ أنه قد لجأ إلى تغيير عنوان الرّواية في اللحظة الأخيرة.
إبن الفار حَفَّار..
لقد قام ابن حفيد المؤلّف دايكر ستوكر بمساعدة أحد الخبراء في هذا الموضوع وهو إيهان هولت عام 2009، بنشر رواية جديدة اعتبرت بمثابة امتداد للرّواية السّابقة التي كتبها جدّه، ووضع لها عنوان: «دراكولا الذي لم يمت»، ولقد تاهت هذه الرّواية الجديدة في دهاليز، ومتاهات، ومنعطفات الجنون والخبل، وهي تحفل بالعديد من الإشارات إلى أعمال كلاسيكية أخرى مثل «جاك الطاعن». ويعلق الناقد رودريغو فريسان عن ذلك بغير قليل من التهكّم والازدراء قائلاً: «إنّ رماد رفات ستوكر المُودَع في جرّة مع بقايا رماد نجله الوحيد إيرفنغ نوييل في لندن لابدّ أنه يُثار ويتحرّك غاضباً بين الفينة والأخرى».
ويتساءل الناقد نفسه: تُرى ما هو أجود ما قام به ستوكر؟ إنّ الكاتب الإيرلندي الذي نشأ وترعرع بين أكوام من الكتب، وتربّى بين أساتذة خصوصييّن بسبب مرض عضال أصابه في طفولته، كان قد نشر العديد من الرّوايات الأخرى، منها «لغز البحر» (1902)، و»الرّجل» (1905) و»جوهرة النجوم السّبع» (1903) وسواها، إلاّ أنّ هذه القصص جميعها لم تحقّق من النجاح ما حقّقته روايته «دراكولا»، التي عرفت انتشاراً واسعاً، وحظيت بشهرة كبيرة على الصّعيدين الشعبي والفنّي، ويبرّر ذلك الناقد فريسان قائلاً: «ذلك أنّ هناك بعض الرّوايات يكون لها تأثير بليغ، وسحرغامض على قارئيها لدرجة أنّها قد تفضي إلى خلق مدرسة قائمة الذات لكتّاب، وأعمال، وروايات ذات إشعاعات سحرية خاصة، تسبّب نوعاً من العدوى في الآخرين، كما أنها تعمل على نسل ورثة مخلصين لهذا النّوع من الأدب الأخّاذ». إنّ سرّ نجاح «دراكولا» يؤول في المقام الأوّل إلى شخصيته السّاحرة والمسحورة، والمثيرة للفضول والتساؤل والإثارة والإعجاب، كما يرجع سرّ هذا النجاح كذلك إلى البناء الدرامي المُحكم للرّواية الذي يقوم أساساً على قصاصات صحافية، ورسائل متبادلة بين شخصيات الرّواية التي تعمل على إبطاء، وتأخير نهايات، وانفراجات العُقدة. كما أنّها في النهاية تجسّد الصّراع الدائم القائم بين قوى الخير والشرّ، ويظل التساؤل الذي يراود القارئ/ المشاهد باستمرار في هذه الرّواية، أو في أيّ شريط سينمائي مُطوّل نقلها إلى الشاشة الكبرى هو: متى يتمّ الانقضاض على الوحش؟

دراكولا وأُوسْكَارْ وَايلد

نشر الكاتب برام ستوكر «دراكولا» عام1897، ولقد خلق وابتكر الشخصيّة الرئيسية لروايته معتمداً على عدّة مصادر، ينطلق المصدر الأوّل من الشخصيّة الحقيقية المسمّاة «فلاد دراكولا فلاد « ابن الشيطان /التنّين، المعروف باسم «فلاد طيبس» الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، وكان أميراً لمنطقة فلاكيا (جنوب رومانيا اليوم) وكان شخصاً غريبَ الأطوار، اشتهر بدفاعه عن وطنه، كما اشتهر بالقسوة المُفرطة والغِلظة والعُنف وتعذيبه لخصومه ومناوئيه بسيخ أو ما أشبه وهو يتلذّذ بعذابهم وآلامهم، ويعتبر «فلاد طيبس» بطلا وطنيّا في رومانيا اليوم. أمّا المصدر الآخر فإنه يرجع إلى المُمثل البريطاني الشّهير هنري أيرفينغ، الذي كان نجماً ساطعاً في عصره، والذي عمل برام ستوكر معه لمدّة 29 عاماً مديرا لأعماله، وسكرتيرا له، ومن خلال معايشته ومرافقته لهذه الشخصيّة استوحى من بعيد فيلم «ظلّ المُمثّل»، يُضاف إلى ذلك محادثاته المتوالية، والمتواترة مع مُستشرق مَجري غريب الأطوار يُدعى «أرمينيوس فامبيري» الذي التقى به برام ستوكر في العديد من المناسبات، لقد كان «فامبيري» ذا شخصية مجنّحة الخيال، خاصّةً عندما كان يتحدّث عن أساطير وخرافات أوروبّا الشّرقية، وكانت بلاغته الطليقة، وخيالاته المُحلّقة تأخذ بمجامع ألباب مستمعيه، وفي مقدّمتهم ستوكر الذي كان «فامبيري» يُسحره بكلامه، ويَستحوذ عليه بحكاياته التي كانت تؤثّر فيه تاثيراً بليغاً، كما أنها كانت تتواءم مع مزاجه السّوداوي وطبعه الغرائبي . قال الكاتب والشّاعر الإيرلندي أوسكار وايلد: «إنّ رواية دراكولا تُعتبر أحسن عمل أدبي كُتب حول الرّعب والإثارة في جميع الأزمان»، ويرى «رودريغو فريسان» أنّ أعمالاً من هذا القبيل تفضي إلى خلق شخصيات مثل التي رأيناها في «فرانكيشتاين» والدكتور جايكل وميستر هايد « إلخ. إنّ «دراكولا» ككتاب يتميّز بالشّفافية لأنه كان إرهاصاً، وإعلاناً بمجيء التحليل النفسي، ذلك أنّ لاوعي الكتّاب والمبدعين آنذاك كان يطفو مُحتدماً على سطح أعمالهم، وإنتاجاتهم الإبداعية، والأمثلة كثيرة ووافرة على ذلك، فلنتأمّل هذه الرّواية بالذات دراكولا كخير نموذج لهذه الموجة، وبعدها «بيتر بان» و»شارلوك هولمز» وسواها.

على إيقاع خَرِير المِياه

لقد مات ستوكر فقيراً، وحيداً، مُعدماً، حزيناً وكئيباً ضحيّة مرض جنسي فاتك عضال أصابه، كما أنّ عائلته التي كان يجترّها ويُجرجرها باستمرار وراء الممثل «أيرفينغ» لم تحصل على أيّ مبالغ مالية بعد وفاة هذا الأخير.
يشير الكاتب الكتالاني- الإسباني إنريكي فيلا ماتاس أنه كان يقطن في دبلن على بعد عدّة أمتار من المنزل الذي كان يقطن فيه برام ستوكر لمدّة عدّة أحقاب»، ويضيف قائلاً: «في المرّة الأولى رأيتُ لوحة رخاميّة تذكاريّة تذكّرنا بسكناه، وإقامته في هذا المنزل، وكان «أوسكار وايلد» بدوره يقيم على بعد عدة أمتار كذلك من منزل برام ستوكر، كان وايلد خطيب الفتاة الجميلة «فلورانس بالكومب» التي سوف يتزوّجها ستوكر في ما بعد . وبعد بضعِ سنواتٍ عُدتُ إلى عين المكان، فوجدتُ في الموضع نفسه الذي كان به منزل ستوكر قد أقيمت عيادة للتجميل، ولم أعثر على أيّ أثرٍ للّوحة الرّخامية التي كُتب عليها اسمُه» . يقول الكونت العجوز: «أنا أنتمي لعائلةٍ عريقةٍ وقديمة، ولابدّ أنّني سأموت سريعاً لو كنتُ مُضطرّاً للعيش في إقامة عصريّة، أنا لا أبحث على السّعادة، ولا على الإحالة على المعاش، كما لا أحلم مثل جميع الشبّان بيومٍ جميلٍ صحوٍ ومُشمسٍ لأستمتع مثلهم فيه بانصرام الزّمن على إيقاع خرير المياه»…

الرِّوَايَة التِي أَثَارَت الرُّعْبَ في قُلُوبِ المَلاَيِين
في ذكرى»ألكُونْتْ دْرَاكُولاَ» للايرلندي بْرَامْ سْتُوكَر